30/01/2024 - 11:00

رفح... مدينة في قلب التحدّي | أرشيف

رفح... مدينة في قلب التحدّي | أرشيف

السلك الشائك من الحدود المصريّة الفلسطينيّة في رفح | رولا حلواني.

 

المصدر: «مجلّة الهلال».

الكاتب: مصطفى نبيل. 

زمن النشر: 1 شباط (فبراير) 1990.

 


 

"رفح، مدينة في قلب التحدّي"؛ أخذت هذه الكلمات تلحّ عليّ عندما توجّهت إلى آخر نقطة عند الركن الشماليّ الشرقيّ من الحدود المصريّة، قاصدًا مدينة رفح، وقطعت في طريقي ذلك القفر الجميل المخيف، سيناء المقدّسة، يصحبني مشهد ثابت بين رمال صفراء وسماء زرقاء صافية، تتابع في كثير من مواضعها أشجار النخيل، وتلتقي بتجمّعات بدويّة متناثرة، ومدن جديدة قائمة. وكلّما اقتربت من هدفي تزايد العمران، وانتشر اللون الأخضر.

تصل إلى رفح بعد أن تقطع نحو 400 كيلومتر من القاهرة، بعدها تصبح أمام بوّابة مصر الشرقيّة والمنفذ إلى درب الشام عند نقطة العبور التاريخيّة بين مصر والشام.

ويبدو أنّ المدن مثل البشر، بعضها له حظّ وافر وبعضها له حظّ عاثر؛ فبعض المدن مراكز للثقافة والحضارة، ومدن أخرى مدن حدود وعبور وقتال. ورفح ضمن مدن العبور والحدود، شهدت العديد من فصول التاريخ الدامية، ويحكي تاريخها الكثير من الدروس والعبر، وما أكثر ما شهدت من صراع الأقدار وصليل السيوف، وكان آخرها ما عانته من قوّات الاحتلال الإسرائيليّ.

ولتكن بداية جولتنا من قلب المدينة، من «شارع صلاح الدين»، فهي مدينة الشارع الواحد، تدور فيه أغلب نشاطاتها، به السوق والمدرسة والمسجد والمخفر، وتتركّز به أيضًا مأساتها.

تحرّر أهلها وخرجت من الأسر بعد ما يزيد على 15 عامًا، وبقي ما تعانيه من سكّين التقسيم الحادّ الّذي فرّق بين الأب وابنه، وبين صاحب الأرض وأرضه، وبين الجار وجاره، وقسّمت العائلات يعيش بعضها في رفح المصريّة والبعض الآخر في رفح الفلسطينيّة.

ولتكن بداية جولتنا من قلب المدينة، من «شارع صلاح الدين»، فهي مدينة الشارع الواحد، تدور فيه أغلب نشاطاتها، به السوق والمدرسة والمسجد والمخفر، وتتركّز به أيضًا مأساتها. وكلّ ما تراه أو تلحظه داخلها له إيحاء خاصّ؛ عندما أطلق على الشارع الرئيسيّ اسم البطل صلاح الدين الأيّوبيّ، الّذي قطعه بجيوشه في الطريق إلى تحرير القدس، وهو الشارع الوحيد الّذي يمكن الانتقال منه إلى رفح الفلسطينيّة، وما زال محور حياة المدينة رغم الأحياء الجديدة والمنشآت الحديثة. وحتّى الحيّ الجديد سُمِّيَ «حيّ الإمام عليّ» تقديرًا لمَنْ استهشد دفاعًا عن الحقّ، وقامت حوله قصر الثقافة والمكتبة العامّة والنادي، وأطلِقَ على معظم محلّاته أسماء ذات مغزى، منها القدس ومكّة وبورسعيد.

 

أحزان المدينة

سكّان المدينة بقسميها ذوي أصل واحد، حتّى لو اختلفت جنسيّاتهم، معظمهم من العشائر البدويّة الّذين يمتدّون عبر الحدود السياسيّة، ويصلون إلى جنوب فلسطين وجنوب الأردن وشمال الحجاز، ويصلون عبر قناة السويس إلى مدينة الشرقيّة، وحتّى ساحل البحر الأحمر. وأبرز عشائر رفح المصريّة هي زغرب، وقد استقرّت كلّ عشيرة فوق الرقعة الّتي اختارتها من الكثبان، وقامت المدينة على التلال والوهاد، ممّا أعطاها شخصيّتها المميّزة. وكثير من سكّانها المستقرّين كانوا بدوًا متنقّلين، وبعد استقرارهم ظلّوا على صلة بالبدو في سيناء وفي النقب على السواء.

تقطع الأسوار الشائكة «شارع صلاح الدين»، بعد أن هدمت السلطات الإسرائيليّة تلك البيوت الّتي اعترضته. أقف أمام نقطة العبور بين قسمي المدينة، عند المركز الأماميّ الّذي يرفرف عليه علم مصر، وهو مبنى متواضع أُقيمَ على عجل. وبين المركز المصريّ والمركز الإسرائيليّ ثمة أسلاك شائكة مزدوجة بينها منطقة عازلة. ويضمّ المركز الرئيسيّ عددًا من الجنود الإسرائيليّين لا يكفّ أحدهم عن ملاحظة كلّ ما يجري في رفح المصريّة من خلال منظاره المكبّر. ينتقل من خلال هذا المركز أولئك الّذين تقوم بيوتهم وأحد جانبيّ المدينة وأراضيهم في الجانب الآخر، ولديهم تصاريح بذلك، والّتي تتجدّد كلّ ستّة شهور. بعضها يوميّ وبعضها الآخر أسبوعيّ وبعضها شهريّ، ويقدّر عدد الحاصلين على هذه التصاريح بنحو مائتيّ مواطن، وكثيرًا ما تلغي السلطات الإسرائيليّة هذه التصاريح دون سبب معروف.

وعند نقطة على يمين «شارع صلاح الدين»، يصرّح للأهالي بتبادل الأحاديث بين الجانبين في ساعات محدّدة من النهار، على أن يبتعد المتخاطبين عن السور، ويتحوّل الحديث إلى ما يشبه الصراخ، ويفقد خصوصيّته وتختلط الأصوات، وتلتقط من هذا الصراع بعض المآسي الإنسانيّة الناتجة عن المأساة الفلسطينيّة؛ فمع السؤال عن الصحّة والأحوال وأخبار الأهل والأصدقاء، تسمع سؤالًا عن أخبار قريب مريض لا تساعده صحّته لكي يراهم عبر الأسوار.

يقول صوت كهل يسأل بصوت مرتجف، عن أخبار سلمان الّذي لم يعد يراه، يردّ شابّ: "لا أريد أن أثير قلقك، فقد اعتقلته السلطات الإسرائيليّة". يصل إلى سمعي صوت امرأة تتحدّث بكبرياء عن زوجها أبو أحمد الّذي ترك عمله في الشرطة، وانضمّ إلى صفوف الانتفاضة، لتحقيق هدف الانتفاضة في استكمال العصيان المدنيّ، ووقف أيّ تعاون مع سلطات الاحتلال. ويأتي صوت الأخ الّذي يحكي لأخيه عن أخبار العائلة، الابن الّذي يدرس في كندا، والآخر الّذي يعمل في الكويت، والثالث الّذي استقرّ في لبنان.

كأنّك أمام أحد السجون، يتبادل الحديث فيها مَنْ هم داخل الأسوار مع مَنْ هم خارجها. لقد سقط حاجز الخوف، وغيّرت الانتفاضة الفلسطينيّة طبيعة الأهالي وأصبحوا أكثر ثقة وإيمانًا بالمستقبل.

يروي أمين الشرطة المصريّ (...) الحكايات الإنسانيّة، وكيف جاء أحد الشباب مهرولًا، يطلب منه أن يسمح له بالاقتراب من السير حتّى يتمكّن من مشاهدة عروسه الّتي اختارتها له أسرته في رفح الفلسطينيّة.

يروي أبو عبد الله أنّ أرضه على بعد 500 متر من بيته، ولكنّه لا يتمكّن من الإشراف عليها ولا يصل إليها وكأنّها في قارّة أخرى، بعد أن سحبت السلطات الإسرائيليّة تصريحه، ولم يستردّه رغم كلّ الشكاوي الّتي كتبها. ويروي أمين الشرطة المصريّ، المشرف على العبور إلى الجانب الآخر، الحكايات الإنسانيّة، وكيف جاء أحد الشباب مهرولًا، يطلب منه أن يسمح له بالاقتراب من السير حتّى يتمكّن من مشاهدة عروسه الّتي اختارتها له أسرته في رفح الفلسطينيّة. وحكاية الأمّ الّتي فاجأها المخاض وهي في زيارة رفح الفلسطينيّة، وعند عودتها مع وليدها رفضت السلطات الإسرائيليّة السماح لطفلها بالمرور، فليس لديه أوراق أو تصريح.

ولم يكن غريبًا أن تكتشف السلطات بين وقت وآخر تلك الأنفاق الّتي أقامها البعض تحت الأسوار، وتصل الأرض بين مصر وفلسطين، والّتي حُفِرَت بعمق حوالي ثمانية أمتار وطول حوالي 500 متر، وكلّما تمّ اكتشاف أحد هذه الأنفاق ظهر نفق جديد، وتمضي الحياة.

وإذا كان «معبر صلاح الدين» يستخدم للراجلين من سكّان رفح للانتقال بين قسمي المدينة، فقد أقيم جنوب مدينة رفح المنفد البرّيّ الّذي تقطعه الحافلات والسيّارات القادمة من إسرائيل، ويصل معدّل العبور إلى ما يزيد على ربع مليون نسمة سنويًا. وزرت هذا المنفد وهو يستعدّ لاستقبال نحو 20 ألف قادم لقضاء عيد رأس السنة في مصر، ويضمّ هذا المركز شرطة الجوازات ورجال الجمارك وسوقًا حرّة، ويعمل المعبر من الصباح الباكر حتّى الساعة الخامسة مساءًا.

 

من فوق ربوة عالية

وبعد جولتنا في المدينة نصعد فوق ربوة عالية، على الطريق بين رفح وساحل البحر، تظهر بانوراما المدينة المقسومة، وتظهر مبانيها فوق التلال، وتقع ناحية الشرق رفح الفلسطينيّة وناحية الغرب رفح المصريّة، وهي تعاني مثل برلين وبيروت ونيقوسيا، ويدفع أهلها مثل غيرها نتائج الصراع العربيّ الإسرائيليّ. ومن المفارقات أنّ مدينة رفح قُسّمت عند التحرير، وأنّ مدينة القدس وُحِّدَت في ظلّ الاحتلال، وكلاهما ينتظر الخلاص.

تبتعد رفح عن ساحل البحر الأبيض المتوسّط نحو خمسة كيلومترات، فهي مثل أغلب المدن العربيّة الّتي أقيمت على ساحل البحر، وهي داخليّة الموقع مثل رمّانة والقرما، والعريش القديمة، ربّما لأسباب أمنيّة أو خشية تقلّبات البحر. وبين المدينة والبحر كثبان من الرمال، يقوم فوقها معالم القديم والجديد معًا، بيت الشعر البدويّ وحوله الماعز إلى جانب الزراعة الحديثة المغطّاة، وترى أشجار التين والزيتون والخوخ واللوز مع أشجار النخيل الّتي لا تنقطع. وهنا أهمّ مناطق سيناء إنتاجًا للحبوب في الشتاء، وسبق وأقيمَت مزرعة تجريبيّة في رفح قبل الاحتلال، تابعة لمصلحة البساتين، واستطاع الأهالي تثبيت هذه الكثبان الرمليّة وزراعتها.

وتظهر المرأة البدويّة حول بيت الشعر في ملابسها المميّزة، وتكاد المرأة أن تقوم بالعبء الأكبر في شؤون الأسرة، رغم أنّ الإناث هنا أقلّ عددًا من الرجال، فهي الّتي تبني بيت الشعر، وهي الّتي تجمع الحطب وطحن الحبّ، وهي الّتي ترعى وتحلب النياق والماعز، والّتي تطرّز الزخارف الجميلة على ثيابها، الّتي تتكوّن من وحدات يسمّى بعضها بـ ’دقن الباشا‘ وحبّ الترمس، والنخلة والمقصّ.

 

الأمن الخادع

اقتصرت العديد من الكتابات حول مصر على الوادي، وتجاهلت بعض هذه الكتابات الصحارى الواسعة، ممّا أعطى أبناء الوادي شعورًا خادعًا بالأمن؛ فالصحارى الشاسعة تحيطهم من الشرق والغرب والجنوب. وقد ألغت الطائرات والصواريخ المسافات في العصر الحديث، ولم يعد ممكنًا أن يعيش سكّان مصر على نحو 4% من المعمورة بعد أن اكتظّ الوادي بالسكّان.

ورفح آخر نقطة في الركن الشماليّ الشرقيّ، وهي إحدى مدن الصحراء والحدود الإستراتيجيّة الحرجة، وهي نقطة لقاء بين البداوة والاستقرار، وفي الصحراء كلّ مدينة قلعة، لذا فهي أقرب ما تكون إلى المدينة العسكريّة بحكم وظيفتها كإحدى مدن الحدود أو مخافر الدفاع.

رفح آخر نقطة في الركن الشماليّ الشرقيّ، وهي إحدى مدن الصحراء والحدود الإستراتيجيّة الحرجة، وهي نقطة لقاء بين البداوة والاستقرار، وفي الصحراء كلّ مدينة قلعة...

هكذا كانت قديمًا، فهي تقوم على أنقاض مدينة ’رافيا‘ الّتي شهدت عدّة معارك بين مصر وقوى معادية منذ فجر التاريخ، ومن أبرز هذه المعارك ضدّ الأشوريّين سنة 720 ق. م. كما تقع على أهمّ طريق حربيّ هو طريق حورس، الّذي استخدمه المصريّون القدماء منذ غزوهم لآسيا، وسار عليه مَنْ أتى للهجوم على أبناء الوادي عبر العصور، وكثيرًا ما استخدمه عشرات من الفراعنة يقودون جيوشهم دفاعًا عن مصر.

وقد عثر الأهالي في عام 1952 في رفح آخر المدن على هذا الطريق، عند بحثهم عن أحجار البناء، على بعض تلك المباني الأثريّة. ومن بينها حمّام رومانيّ وبعض التماثيل. كما تقع المدينة أيضًا على طريق الهجرات الكبرى. ورفح التاريخيّة في كتب الأقدمين كانت دائمًا مدينة مصريّة واحدة، منذ ياقوت الحمويّ، في كتابه «معجم البلدان»، إلى نعوم شقير في سفره التاريخيّ عن سيناء الّذي كتبه عام 1916، فقدّم ياقوت الحمويّ وصفًا للدرب السلطانيّ الّذي سلكه أكثر من مرّة، وحدّده بمسيرة خمسة أو ستّة أيّام، كما حدّد شريانه الرئيسيّ وطرقه الفرعيّة والبديلة، وذكر أنّ بدايته في الشرق عند رفح، وأنّ وادي السباع في شرقيّ رفح. ووصف ما رأى في شمال سيناء بأنّه رمال هائلة بيضاء سُمِّيَت برمل الجفار، لكثرة ما بها من جفار – الجفر البئر القريبة الواسعة القعر يشرب منها السكّان – ويمضي في كتابه قائلًا: "وفي الطريق بين رفح وقطية، مواضع عامرة يسكنها قوم من السوقة للمعيشة على القوافل، وفي كلّ موضع في رفح والقصّ والزعفا والعريض والواردة وقطية، عدّة دكاكين يشترى منها كلّ ما يحتاج إليه المسافر".

ويصف ياقوت الحمويّ مدينة رفح بقوله: "... نزل هي أوّل الرمل، وقد كانت عامرة من قبل، خرب الآن وله ذكر في الأخبار..."، ولا يفوته أن يبيّن أنّه زارها في وقت دمّر فيه الغزو الصليبيّ الكثير من المدن الساحليّة، وخرجت فيه من حكم الفاطميّين، ممّا دفع قوافل التجارة لتأخذ طريق آيله – القلزم (السويس).

وينقل ياقوت الحمويّ وصف مَنْ سبقه من الجغرافيّين والرحالة، ويورد وصف المهلّبي لها (575ه – 1179م)، ممّا يؤكّد ما فعله الفرنجة بها، يقول: "إنّ رفح مدينة عامرة فيها سوق وجامع ومنبر وفنادق... ومن رفح إلى مدينة غزّة شجر جمّيز مصطفّ من جانبيّ الطريق متّصلة الأغصان بعضها ببعض مسيرة نحو ميلين".

هكذا وصفها ياقوت الحمويّ والمهلّبيّ في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديّ، ثمّ يأتي كتاب نعوم شقير ويذكر: "بنى محافظ سيناء سنة 1907 مركزًا للبوليس في رفح قرب عموديّ الحدود... وكان قد حضر إلى رفح بعض رجال الجمعيّة الصهيونيّة، واشتروا من أهلها بعض الأراضي بقصد تأسيس مستعمرة لهم. ولم يثبت لرجال الجمعيّة من الأرض ما يكفي لإنشاء مستعمرة فوقف عملهم".

وقد زار الخديوي إسماعيل رفح عام 1898، أي بعد مائة عام من مرور نابليون برفح قادمًا من القاهرة في حملته عام 1799، وزارها بعده الخديوي عبّاس حلمي. وخلال هذه الزيارة تمّ تحديد الحدود بين مصر والشام، بعمود الجرانيت القائم تحت شجرة السرو القديمة. وتمّ توقيع اتّفاقيّة في الأوّل من تشرين الأوّل (أكتوبر) 1906، بين مصر وتركيا، ونُصِبَت أعمدة على طول الخطّ، بحيث يرى الواقف عند عمود، العمود الّذي يليه، وبلغ عدد الأعمدة 91 عمودًا، بُنِيَتْ بالحجارة على شكل هرم ناقص، قاعدته 1 متر مربّع، وارتفاعه متران إلى مترين ونصف. وآخر عمود بُنِيَ على تلّ الخرائب بساحل رفح في 9 شباط (فبراير) عام 1907، وأُعْطِيَ رقم (1). 

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.

 

 

 

التعليقات